فصل: تفسير الآية رقم (43)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

لَمَّا أنبأ قوله‏:‏ ‏{‏قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏ إلى آخره، بأنّ أهل الجاهليّة حُرِموا من الزّينة والطّيبات من الرّزق، وأنبأ قوله تعالى قبل ذلك ‏{‏وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏ بأنّ أهل الجاهليّة يَعْزُون ضلالهم في الدّين إلى الله، فأنتج ذلك أنّهم ادّعوا أنّ ما حَرّموه من الزّينة والطّيبات قد حرّمه الله عليهم، أعقب مجادلتهم ببيان ما حرّمه الله حقّاً وهم ملتبسون به وعاكفون على فعله‏.‏

فالقصر المفاد من ‏{‏إنَّما‏}‏ قصر إضافي مُفَادُهُ أنّ الله حرّم الفَواحش وما ذُكر معها لاَ ما حرّمتموه من الزّينة والطّيّبات، فأفاد إبطال اعتقادهم، ثمّ هو يفيد بطريق التّعريض أنّ ما عدّه الله من المحرّمات الثّابت تحريمها قد تلبّسوا بها، لأنّه لمّا عدّ أشياء، وقد علم النّاس أنّ المحرّمات ليست محصورة فيها، عَلم السّامع أنّ ما عيّنه مقصود به تعيين ما تلبّسوا به فحصل بصيغة القصر ردّ عليهم من جانبي ما في صيغة ‏(‏إنّما‏)‏ من إثبات ونفي‏:‏ إذ هي بمعنى ‏(‏مَا وإلاّ‏)‏، فأفاد تحليل ما زعموه حراماً وتحريم ما استبَاحوه من الفواحش وما معها‏.‏

والفواحش جمع فاحشة وقد تقدّم ذكر معنى الفاحشة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان فاحشة ومقتاً‏}‏ في سورة النّساء ‏(‏22‏)‏ وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا فعلوا فاحشة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما ظهر منها‏}‏ هو ما يظهره النّاس بين قرنائهم وخاصتهم مثل البغاء والمخادنة، وما بطن هو ما لا يظهره النّاس مثل الوأد والسّرقة، وقد تقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏151‏)‏‏.‏ وقد كانوا في الجاهليّة يستحلّون هذه الفواحش وهي مفاسد قبيحة لا يشكّ أولو الألباب، لو سئلوا، أنّ الله لا يرضى بها، وقيل المراد بالفواحش‏:‏ الزّنا، وما ظهر منه وما بطن حالان من أحوال الزّناة، وعلى هذا يتعيّن أن يكون الإتيان بصيغة الجمع لاعتبار تعدّد أفعاله وأحواله وهو بعيد‏.‏

وأمّا الإثم فهو كلّ ذنب، فهو أعمّ من الفواحش، وتقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فيهما إثم كبير‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏219‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏120‏)‏، فيكون ذكر الفواحش قبلَه للاهتمام بالتّحذير منها قبل التّحذير من عموم الذّنوب، فهو من ذكر الخاص قبل العام للاهتمام، كذكر الخاص بعد العام، إلاّ أنّ الاهتمام الحاصل بالتّخصيص مع التّقديم أقوى لأنّ فيه اهتماماً من جهتين‏.‏

وأمّا البغي فهو الاعتداء على حقّ الغير بسلب أموالِهم أو بأذاهم، والكبرُ على النّاس من البغي، فما كان بوجه حقّ فلا يسمّى بَغياً ولكنّه أذىً، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏والّذان يأتيانها منكم فآذوهما‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 16‏]‏ وقد كان البغي شائعاً في الجاهليّة فكان القوي يأكل الضّعيف، وذو البأس يغير على أنعام النّاس ويقتل أعداءه منهم، ومن البغي أن يضربوا من يطوف بالبيت بثيابه إذا كان من غير الحُمْس، وأن يُلزموه بأن لا يأكل غير طعام الحُمْس، ولا يطوف إلاّ في ثيابهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏ صفة كاشفة للبغي مثل العشاء الآخرة لأنّ البغي لا يكون إلاّ بغير حقّ‏.‏

وعطف ‏{‏البغي‏}‏ على ‏{‏الإثم‏}‏ من عطف الخاص على العام للاهتمام به، لأنّ البغي كان دأبهم في الجاهليّة، قال سوار بن المضرِّب السّعدي‏:‏

وأنَّي لاَ أزَالُ أخَا حُروب *** إذا لم أجْننِ كنت مِجَنَّ جان

والإشراك معروف وقد حرّمَه الله تعالى على لسان جميع الأنبياء منذ خلَق البشر‏.‏

و ‏{‏ما لم ينزّل به سلطانا‏}‏ موصول وصلته، و‏(‏مَا‏)‏ مفعول ‏{‏تشركوا بالله‏}‏، والسّلطان البرهان والحجّة، والمجرور في قوله‏:‏ ‏{‏به‏}‏ صفة ل ‏{‏سلطانا‏}‏، والباء للمصاحبة بمعنى معه أي لم ينزّل حجّة مصاحبة له، وهي مصاحبة الحجّة للمدّعي وهي مصاحبة مجازية ويجوز أن يكون الباء بمعنى على للاستعلاء المجازي على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من إن تأمنه بقنطار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ أي سلطاناً عليه، أي دليلاً‏.‏ وضمير ‏(‏به‏)‏ عائد إلى ‏(‏ما‏)‏ وهو الرابط للصّلة‏.‏ فمعنى نفي تنزيل الحجّة على الشّركاء‏:‏ نفي الحجّة الدّالة على إثبات صفة الشّركة مع الله في الإلهيّة، فهو من تعليق الحكم بالذّات والمرادُ وصفُها، مثلُ حرّمت عليكم الميتة أي أكلها‏.‏ وهذه الصّلة مؤذنة بتخطئة المشركين، ونفيِ معذرتهم في الإشراك، بأنّه لا دليل يشتبه على النّاس في عدم استحقاق الأصنام العبادة، فَعَرّف الشّركاء المزعومين تعريفاً لطريق الرسم بأنّ خاصّتهم‏:‏ أنّ لا سُلطان على شركتهم لله في الإلهية، فكلّ صنم من أصنامهم واضحة فيه هذه الخاصّة، فإنّ الموصول وصلته من طرق التّعريف، وليس ذلك كالوصف، وليس للموصول وصلته مفهوم مخالفة، ولا الموصولاتُ معدودة في صِيَغ المفاهيم، فلا يتّجه ما أورده الفخر من أن يقول قائل‏:‏ هذا يوهم أن مِن بين الشّرك ما أنزل الله به سلطاناً واحتياجِه إلى دفع هذا الإيهام، ولا ما قفاه عليه صاحب «الانتصاف» من تنظير نفي السّلطان في هذه الآية بنحو قول امرئ القيس‏:‏

على لا حببٍ لا يُهتدَى بمناره

ولا يتّجه ما نحاه صاحبُ «الكشاف» من إجراء هذه الصّلة على طريقة التّهكّم‏.‏

وقولُه‏:‏ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ تقدّم نظيره آنفاً عند قوله تعالى، في هذه السّورة‏:‏ ‏{‏قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وقد جمعت هذه الآية أصول أحوال أهل الجاهليّة فيما تلبسوا به من الفواحش والآثام، وهم يزعمون أنّهم يتورّعون عن الطّواف في الثّياب، وعن أكل بعض الطّيّبات في الحجّ‏.‏ وهذا من ناحية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عنه الله والفتنة أكبر من القتل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

اعتراض بين جملة‏:‏ ‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 31‏]‏ وبين جملة‏:‏ ‏{‏يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 35‏]‏ لمّا نعى الله على المشركين ضلالهم وتمرّدهم‏.‏ بعد أن دعاهم إلى الإيمان، وإعراضَهم عنه، بالمجادلة والتّوبيخ وإظهارِ نقائصهم بالحجّة البيّنة، وكان حالهم حال من لا يقلع عمّا هم فيه، أعقَب ذلك بإنذارهم ووعيدهم إقامةً للحجّة عليهم وإعذاراً لهم قبل حلول العذاب بهم‏.‏

وهذه الجملة تؤكّد الغرض من جملة‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ وتحتمل معنيين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون المقصود بهذا الخبر المشركين، بأن أقبل الله على خطابهم أو أمر نبيئه بأن يخاطبهم، لأنّ هذا الخطاب خطاب وعيد وإنذار‏.‏

والمعنى الثّاني‏:‏ أن يكون المقصود بالخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيكون وعداً له بالنّصر على مكذّبيه، وإعلاماً له بأنّ سنّته سنّةُ غيره من الرّسل بطريقة جعل سنّة أمّته كسنّة غيرها من الأمم‏.‏

وذكْرُ عموم الأمم في هذا الوعيد، مع أنّ المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا، إنّما هو مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم على طريقة الاستشهاد بشواهد التّاريخ في قياس الحاضر على الماضي فيكون الوعيد خبراً معضوداً بالدّليل والحجّة، كما قال تعالى في آيات كثيرة منها‏:‏ ‏{‏قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 137‏]‏ أي‏:‏ ما أنتم إلاّ أمة من الأمم المكذّبين ولكلّ أمّة أجل فأنتم لكم أجل سيحين حينه‏.‏

وذِكر الأجل هنا، دون أن يقول لكلّ أمّة عذاب أو استئصال، إيقاظاً لعقولهم من أن يغرّهم الإمهال فيحسبوا أنّ الله غيرُ مؤاخذهم على تكذيبهم، كما قالوا‏:‏ ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏، وطمأنةً للرسول عليه الصّلاة والسلام بأنّ تأخير العذاب عنهم إنّما هو جري على عادة الله تعالى في إمهال الظّالمين على حدّ قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذّبوا جاءهم نصرنا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 110‏]‏ وقوله ‏{‏لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 196، 197‏]‏‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏لكل أمة أجل‏}‏ لكلّ أمّة مكذّبة إمهال فحذف وصف أمّة أي‏:‏ مكذّبة‏.‏

وجعل لذلك الزّمان نهاية وهي الوقت المضروب لانقضاء الإمهال، فالأجل يطلق على مدّة الإمهال، ويُطلق على الوقت المحدّد به انتهاء الإمهال، ولا شكّ أنّه وُضع لأحد الأمرين ثمّ استعمل في الآخرة على تأويل منتهى المدّة أو تأخير المنتهى وشاع الاستعمالان‏.‏ فعلى الأوّل يقال قَضى الأجلَ أي المدّة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أيَّما الأجلين قضيت‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 28‏]‏ وعلى الثّاني يقال‏:‏ «دنا أجل فلان» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 128‏]‏ والواقع في هذه الآية يصحّ للاستعمالين بأن يكون المراد بالأجل الأوّل المدّة، وبالثّاني الوقت المحدّد لفعللٍ مَّا‏.‏

والمراد بالأمّة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك أو في تكذيب الرّسل، كما يدلّ عليه السّياق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تشركوا بالله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ إلخ وليس المراد بالأمّة، الجماعةَ التي يجمعها نسب أو لغة إذ لا يتصوّر انقراضها عن بكرة أبيها، ولم يقع في التّاريخ انقراض إحداها، وإنّما وقع في بعض الأمم أن انقرض غالب رجالها بحوادث عظيمة مثل ‏(‏طَسْمٍ‏)‏ و‏(‏جَدِيس‏)‏ و‏(‏عَدْوَان‏)‏ فتندمج بقاياها في أمم أخرى مجاورة لها فلا يقال لأمّة إنّ لها أجلا تنقرض فيه، إلاّ بمعنى جماعة يجمعها أنّها مُرسل إليها رسول فكذّبته، وكذلك كان ما صْدَق هذه الآية، فإنّ العرب لمّا أرسل محمّد صلى الله عليه وسلم ابتدأ دعوته فيهم ولهم، فآمن به من آمن، وتَلاحق المؤمنون أفواجاً، وكذّب به أهل مكّة وتبعهم مَن حولهم، وأمهل الله العربَ بحكمته وبرحمة نبيّه صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ «لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده» فلطف الله بهم إذ جعلهم مختلطين مؤمنهم ومشركهم، ثمّ هاجر المؤمنون فبقيت مكّة دار شرك وتمحّض مَنْ عَلِم الله أنّهم لا يؤمنون فأرسل الله عليهم عبادَهُ المؤمنين فاستأصلوهم فوْجاً بعد فوح، في يوم بدر وما بعده من أيّام الإسلام، إلى أن تَم استئصال أهل الشّرك بقتل بقيّة من قتل منهم في غزوة الفتح، مثل عبد الله بن خَطَل ومن قُتل معه، فلمّا فتحت مكّة دان العرب للإسلام وانقرض أهل الشّرك، ولم تقم للشّرك قائمة بعد ذلك، وأظهر الله عنايته بالأمّة العربيّة إذ كانت من أوّللِ دعوة الرّسول غير متمحّضة للشّرك، بل كان فيها مسلمون من أوّل يوم الدّعوة، وما زالوا يتزايدون‏.‏

وليس المراد في الآية، بأجل الأمّة، أجلَ أفرادها، وهو مدّة حياة كلّ واحد منها، لأنّه لا علاقة له بالسّياق، ولأنّ إسناده إلى الأمّة يعيّن أنّه أجل مجموعها لا أفرادها، ولو أريد آجال الأفراد لقال لكلّ أحد أو لكلّ حَيّ أجل‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ ظرف زمان للمستقبل في الغالب، وتتضمّن معنى الشّرط غالباً، لأنّ معاني الظّروف قريبَة من معاني الشّرط لما فيها من التّعليق، وقد استُغني بفاء تفريع عامل الظرّف هنا عن الإتيان بالفاء في جواب ‏(‏إذا‏)‏ لظهور معنى الرّبط والتّعليق بمجموع الظّرفية والتّفريع، والمفرعُ هو‏:‏ ‏{‏جاء أجلهم‏}‏ وإنّما قدم الظّرف على عامله للاهتمام به ليتأكدّ بذلك التّقديممِ معنى التّعليق‏.‏ والمجيء مجاز في الحلول المقدَّر له كقولهم جاء الشّتاء‏.‏

وإفراد الأجل في قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاء أجلهم‏}‏ مراعى فيه الجنس، الصّادق بالكثير، بقرينة إضافته إلى ضمير الجمع‏.‏

وأُظهر لفظ أجل في قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاء أجلهم‏}‏ ولم يُكتف بضميره لزيادة تقرير الحكم عليه، ولتكون هذه الجملة مستقلّة بنفسها غير متوقّفة عن سماع غيرها لأنّها بحيث تَجْري مَجرى المثل، وإرسالُ الكلام الصّالح لأن يكون مَثلا طريق مِن طُرق البلاغة‏.‏

و ‏{‏يستأخرون‏}‏‏:‏ و‏{‏يستقدمون‏}‏ بمعنى‏:‏ يتأخّرون ويتقدّمون، فالسّين والتّاء فيهما للتّأكيد مثل استجاب‏.‏

والمعنى‏:‏ إنّهم لا يتجاوزونه بتأخير ولا يتعجّلونه بتقديم‏.‏ والمقصود أنّهم لا يؤخّرون عنه، فَعَطْفُ ‏{‏ولا يستقدمون‏}‏ لبيان أن ما علمه الله وقدّره على وفق علمه لا يَقْدِر أحد على تغييره وصَرفه، فكان قوله‏:‏ ‏{‏ولا يستقدمون‏}‏ لا تعلّق له بغرض التّهديد‏.‏ وقريب من هذا قول أبي الشيص‏:‏

وقف الهوى بي حيثُ أنتتِ فليس لي *** مُتَأخَّرٌ عَنْهُ وَلاَ مُتَقَدَّم

وكلّ ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التّخلّص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتُبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

يجيء في موقع هذه الجملة‏:‏ من التّأويل، ما تقدّم في القوللِ في نظيرتها وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏‏.‏

والتّأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرّابعة أوضحَ‏.‏ وصيغة الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏رسل‏}‏ وقوله ‏{‏يقصون‏}‏ تقتضي توقّع مجيءِ عدّةِ رسل، وذلك منتف بعد بعثة الرّسول الخاتم للرّسل الحاشر العاقب عليه الصّلاة والسّلام، فذلك يتأكّد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن، ويرجح أن تكون هذه النّداآت الأربعة حكاية لقوللٍ موجّه إلى بني آدم الأوّلين الذي أوّلُه‏:‏ ‏{‏قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

قال ابن عطيّة‏:‏ «وكأنّ هذا خطاب لجميع الأمم، قديمها وحديثها، هو متمكّن لهم، ومتحصّل منه لحاضري محمّد صلى الله عليه وسلم أنّ هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه» يريد أنّ الله أبلغ النّاس هذا الخطابَ على لسان كلّ نبيء، من آدم إلى هلم جرّا، فما من نبيء أو رسول إلاّ وبلَّغه أمَّته، وأمَرَهم بأن يبلغ الشّاهد منهم الغائبَ، حتّى نزل في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فعلمت أمّته أنّها مشمولة في عموم بني آدم‏.‏

وإذا كان ذلك متعيّناً في هذه الآية أو كالمتعيّن تعيّن اعتبار مثله في نظائرها الثّلاث الماضية، فشد به يدك‏.‏ ولا تعبأْ بمن حَرَدك‏.‏

فأمَا إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجّهاً إلى المشركين في زمن النّزول، بعنوان كونهم من بني آدم، فهنالك يتعيّن صرف معنى الشّرط إلى ما يأتي من الزّمان بعد نزول الآية لأنّ الشّرط يقتضي الاستقبال غالباً‏.‏ كأنّه قيل إنْ فاتكم اتّباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يَفْتُكم فيما بقي، ويتعيّن تأويل يأتينّكم بمعنى يَدْعُونَّكم، ويتعيَّن جعل جمع الرّسل على إرادة رسول واحد، تعظيماً له، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 37‏]‏ أي كذّبوا رسوله نُوحا، وقوله‏:‏ ‏{‏كذبت قوم نوح المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 105‏]‏ وله نظائر كثيرة في القرآن‏.‏

وهذه الآية، والتي بعدها متّصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أوّل السّورة‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ الآية اتّصال التّفصيل بإجماله‏.‏

أكد به تحذيرهم من كيد الشّيطان وفتونه، وأراهم به مناهج الرّشد التي تُعين على تجنّب كيده، بدعوة الرّسل إياهم إلى التّقوى والإصلاح، كما أشار إليه بقوله، في الخطاب السّابق‏:‏ ‏{‏يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ وأنبأهم بأنّ الشّيطان توعَّد نوع الإنسان فيما حكى الله في قوله‏:‏ ‏{‏قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ الآية فلذلك حذرّ الله بني آدم من كيد الشّيطان، وأشعرهم بقوّة الشّيطان بقوله‏:‏ ‏{‏إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم‏}‏

‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ عسى أن يتّخذوا العُدّة للنّجاة من مخالب فتنته، وأردف ذلك بالتّحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين، ثمّ عزّز ذلك بإعلامه إياهم أنّه أعانهم على الاحتراز من الشّيطان، بأن يبعث إليهم قوماً من حزب الله يبلّغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشّياطين، بقوله‏:‏ ‏{‏يا بني آدم إما يأتيكم رسل منكم‏}‏ الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم‏.‏

و ‏{‏إمَّا‏}‏ مركّبة من ‏(‏إن‏)‏ الشّرطيّة و‏(‏ما‏)‏ الزائدة المؤكّدة لمعنى الشّرطية، واصطلح أيمّة رسم الخطّ على كتابتها في صورة كلمة واحدَة، رعْياً لحالة النّطق بها بإدغام النّون في الميم، والأظهر أنّها تفيد مع التّأكيد عموم الشّرط مثل أخواتها ‏(‏مهما‏)‏ و‏(‏أينما‏)‏، فإذا اقترنت بإن الشّرطية اقترنت نون التّوكيد بفعل الشّرط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما ترين من البشر أحداً فقولي‏}‏ سورة مريم ‏(‏26‏)‏ لأنّ التّوكيد الشّرطي يشبه القسم، وهذا الاقتران بالنّون غالب، ولأنّها لما وقعت توكيداً للشّرط تنزّلت من أداة الشّرط منزلة جزء الكلمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أي من بني آدم، وهذا تنبيه لبَني آدم بأنّهم لا يترقّبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأنّ المرسَل يكون من جنس من أرسل إليهم، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرّسل لأنّهم من جنسهم، مثل قوم نوح، إذ قالوا‏:‏ ‏{‏ما نراك إلا بشراً مثلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ ومثل المشركين من أهل مكّة إذ كذّبوا رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم بأنّه بَشر قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أَبَعثَ الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 94، 95‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏يقصون عليكم آياتي‏}‏ يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يُتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون وكلّها معان مجازيّة للقص لأنّ حقيقة القص هي أنّ أصل القصص إتْباع الحديث من اقتصاص أثر الأرجل واتّباعه لتعرف جهة الماشي، فعلى المعنى الأوّل فهو كقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 71‏]‏ وأيّاً مّا كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللّفظ في مجازيْه‏.‏

الآية أصلها العلامة الدّالة على شيء، من قول أو فعل، وآيات الله الدّلائل التي جعلها دالة على وجوده، أو على صفاته، أو على صدق رسله، كما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏39‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏37‏)‏، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للنّاس، للتّعريض بالمشركين من العرب، الذين أنكروا رسالة محمّد‏.‏ ووجه دلالة الآيات على ذلك إمّا لأنّها جاءت على نظم يَعجز البشر عن تأليف مثله، وذلك من خصائص القرآن، وإمّا لأنّها تشتمل على أحكام ومعان لا قِبَل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها، أو لأنّها تدعو إلى صلاح لم يعهَدْه النّاس‏.‏

فيَدل ما اشتملت عليه على أنّه ممّا أراده الله للنّاس، مثل بقيّة الكتب التي جاءت بها الرّسل، وإمّا لأنّها قارنتها أمور خارقة للعادة تحدّى بها الرّسولُ المرسلُ بتلك الأقوال أمَّتَه، فهذا معنى تسميتها آيات، ومعنَى إضافتها إلى الله تعالى، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزاتتِ غيرَ القولية، مثل نبع الماء من بين أصابع محمّد ومثل قلب العصا حيّة لموسى عليه السلام‏.‏ وابراء الأكمه لعيسى عليه السّلام، ومعنى التّكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها‏.‏

وجملة‏:‏ فمن اتقى وأصلح‏}‏ جواب الشّرط وبينها وبين جملة‏:‏ ‏{‏إما يأتينكم‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ فاتقى منكم فريق وكذب فريق ‏{‏فمن اتقى‏}‏ إلخ، وهذه الجملة شرطيّة أيضاً، وجوابها ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏، أي فمن اتّبع رسلي فاتّقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولمّا كان إتيان الرّسل فائدته لإصلاح النّاس، لا لنفع الرّسل، عُدل عن جعل الجواب اتّباعّ الرّسل إلى جعله التّقوى والصّلاح‏.‏ إيماء إلى حكمة إرسال الرّسل، وتحريضا على اتّباعهم بأن فائدتُه للأمم لا للرّسل، كما قال شعيب‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدّنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء من ذلك، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقاً بمقدار قوّة التّقوى والصّلاح، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصّالحين، ومثلُه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 62 64‏]‏‏.‏

وقد نُفي الخوف نفي الجنس بلا النّافية له، وجيء باسمها مرفوعاً لأنّ الرّفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا، لأنّ الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهّم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحدِ، ولو فتح مثله لصحّ، ومنه قول الرابّعة من نساء حديث أمّ زرع‏:‏ «زوجي كَلَيْللِ تِهامَه، لا حَرّ ولا قَرّ ولا مخافة ولا سئامَه» فقد روي بالرّفع وبالفتح‏.‏

و ‏(‏على‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ للاستعلاء المجازي، وهو المقارنة والملازمة، أي لا خوف ينالهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ جملة عطفت على جملة‏:‏ ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏، وعُدل عن عطف المفرد، بأن يقال ولا حَزَنٌ، إلى الجملة‏:‏ ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم، فيدلّ على أنّ الحَزَن واقع بغيرهم، وهم الذين كفروا‏.‏ فإنّ بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدّم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر، نحو‏:‏ ما أنا قُلْتُ هذا، فإنّه نفيُ صدور القول من المتكلّم مع كون القول واقعاً من غيره، وعليه بيت «دلائل الإعجاز»، ‏(‏وهو للمتنبّي‏)‏‏:‏

وما أنا أسقمت جسمي به *** ولا أنا أضرَمْتُ في القلب ناراً

فيفيد أنّ الذين كفروا يَحزنون إفادة بطريق المفهوم، ليكون كالمقدّمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنّهم أصحاب النّار هم فيها خالدون‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏فمن اتَّقى وأصلح‏}‏‏.‏ والرَابط محذوف تقديره‏:‏ والذين كفروا منكم وكذّبوا‏.‏

والاستكبار مبالغة في التّكبّر، فالسين والتّاء للمبالغة‏.‏ وهو أن يعُد المرء نفسه كبيراً أي عظيماً وما هو به، فالسّين والتاء لعد والحسبان، وكلا الأمرين يؤذن بإفراطهم في ذلك وأنّهم عَدَوْا قدرهم‏.‏

وضمن الاستكبار معنى الإعراض‏.‏ فعلّق به ضمير الآيات‏.‏ والمعنى‏:‏ واستكبروا فأعرضوا عنها‏.‏

وأفاد تحقيق أنّهم صائرون إلى النّار بطريق قصر ملازمة النّار عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار‏}‏ لأنّ لفظ أصحاب مؤذن بالملازمة‏.‏ وبما تدلّ عليه الجملة الاسميّة من الدّوام والثّبات في قوله‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ باياته أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين قَالَ ادخلوا فى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الجن والإنس فِى النار‏}‏‏.‏

الفاء للتّفريع على جملة الكلام السّابق، وهذه كالفذلكة لما تقدّم لتُبيِّن أنّ صفات الضّلال، التي أُبهم أصحابُها، هي جافة بالمشركين المكذّبين برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام فإنّ الله ذكر أولياء الشّياطين وبعض صفاتهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ وذكر أنّ الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتّبعوا من يجيئهم من الرّسل عن الله تعالى بآياته ليتّقوا ويصلحوا، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التّكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النّار، فقد أعذر إليهم وبصّرهم بالعواقب، فتفرّع على ذلك‏:‏ أن من كَذَب على الله فزعم أنّ الله أمره بالفواحش، أوْ كَذب بآيات الله التي جاء بها رسوله، فقد ظلم نفسه ظُلماً عظيماً حتّى يُسْأل عمن هو أظلم منه‏.‏

ولك أن تجعل جملة‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن افترى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 144‏]‏ إلخ معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 36‏]‏ وجملة‏:‏ ‏{‏أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة، وقد تقدّم الكلام على تركيب‏:‏ ‏{‏من أظلم ممن‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه في سورة البقرة ‏(‏114‏)‏، وأنّ الاستفهام للإنكار، أي لا أحد أظلم‏.‏

والافتراء والكذب تقدّم القول فيهما عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة العقود ‏(‏103‏)‏‏.‏ ولهذه الآية اتّصال بآية‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ من حيث ما فيها من التّهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق، المعبّر عنه بمَن افترى على الله كذباً‏.‏ و‏(‏مَنْ‏)‏ الثّانية موصولة، وهي عامة لكلّ من تتحقّق فيه الصّلة، وإنّما كانوا أظلم النّاس ولم يكن أظلمُ منهم، لأنّ الظلم اعتداء على حقّ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى، وأعظم الاعتداء على حقّ الله الاعتداءُ عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم، وذلك بأن يكذّب بما جاءه من قِبله، أو بأن يَكْذِب عليه قيبلِّغ عنه ما لم يأمر به فإنْ جَمَع بين الأمرين فقد عطّل مراد الله تعالى من جهتين‏:‏ جهة إبطال ما يدلّ على مراده، وجهة إيهام النّاس بأنّ الله أراد منهم ما لا يريده الله‏.‏

والمراد بهذا الفريق‏:‏ هم المشركون من العرب، فإنّهم كذّبوا بآيات الله التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أنّ الله أمرهم به من الفواحش، كما تقدّم آنفاً عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

و ‏(‏أو‏)‏ ظاهرها التّقسيم فيكون الأظلمُ وهم المشركون فريقين‏:‏ فريق افتروا على الله الكذب، وهم سادة أهل الشّرك وكبراؤهم، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون، مثل عَمْرو بن لُحَيّ، وأبي كَبْشة، ومن جاء بعدهما، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية، وفريق كذّبوا بآياتتٍ ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين، من أهل مكّة وما حولها، وعلى هذا فكلّ واحد من الفريقين لا أظلمَ منه، لأنّ الفريق الآخر مساوٍ له في الظلم وليس أظلَم منه، فأمَّا من جمع بين الأمرين ممّن لعلّهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أموراً من الضّلالات، وكذّبوا محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم أشدّ ظلماً، ولكنّهم لمّا كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم النّاس، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏، فلا شكّ أنّ الجامع بين الخصال الثّلاث هو أظلم من كلّ من انفرد بخصلة منها، وذلك يوجب له زيادة في الأظلميّة، لأنّ كلّ شدّة وصف قابلة للزّيادة‏.‏

ولك أن تجعل ‏(‏أو‏)‏ بمعنى الواو، فيكون الموصوف بأنّه أظلم النّاس هو من اتّصف بالأمرين الكذب والتّكذيب، ويكون صادقاً على المشركين لأنّ جماعتهم لا تخلو عن ذلك‏.‏

شيء باسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ ليدلّ على أنّ المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناءً على ما دلّ عليه التّفريع بالفاء‏.‏

وجملة ‏{‏أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ الآية، لأنّ التّهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السّامع أن يَسأل عمّا سيلاقُونه من الله الذي افتروا عليه وكذّبوا بآياته‏.‏

ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏أولئك ينالهم نصيبهم‏}‏ عطف بيان لجملة‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 36‏]‏ أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب‏.‏

وتكملة هذه الجملة هي جملة‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم‏}‏ الآية كما سيأتي‏.‏

ومادة النّيل والنّوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللّغة، غير مفصحةً عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائيّ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأنّ ذلك نشأ من القلب في بعض التّصاريف أو من تداخل اللّغات، وتقول نُلْتُ بضمّ النّون من نال يُنول، وتقول نِلْت بكسر النّون من نال يَنِيل، وأصل النّيْل إصابة الإنسان شيئاً لنفسه بيَده، ونوّله أعطاهُ فنال، فالأصل أن تقول نَال فلان كسباً، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأنّ النّصيب من الكتاب هو أمر معنوي، فمقتضى الظّاهر أن يكون النّصيب مَنُولا لا نَائلاً، لأنّ النّصيب لا يُحصِّل الذين افتروا على الله كذباً، بل بالعكس‏:‏ الذين افتروا يحصلونه، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى‏:‏

‏{‏لن ينال الله لحومها ولا دماؤها‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 37‏]‏ وقوله ‏{‏سينالهم غضب من ربهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 152‏]‏، فتعيّن أن يكون هذا إمّا مجازاً مرسلاً في معنى مطلق الإصابة، وإمّا أن يكون استعارة مبنيّة على عكس التّشبيه بأن شبّه النّصيب بشخص طالب طِلبة فنالها، وإنّما يصار إلى هذا للتّنبيه على أنّ الذي ينالهم شيءٌ يكرهونه، وهو يطلبهم وهم يفرّون منه، كما يطلب العدوّ عدوّه، فقد صار النّصيب من الكتاب كأنَّه يطلب أن يحصِّل الفريق الذين حقّ عليهم ويصادِفهم، وهو قريب من القلب المبني على عكس التّشبيه في قول رؤبة‏:‏

وَمَهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه *** كأنّ لَوْنَ أرْضِهِ سَمَاؤُه

وقولهم‏:‏ «عرضتُ النّاقة على الحوض»‏.‏

والنّصيب الحظّ الصّائر لأحد المتقاسمين من الشّيء المقسوم، وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم نصيب مما كسبوا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏202‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون‏}‏ في سورة النساء ‏(‏7‏)‏‏.‏

والمراد بالكتاب ما تضمَّنه الكتاب، فإن كان الكتاب مستعملاً حقيقة فهو القرآن، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده، مثل قوله تعالى آنفاً‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 36‏]‏، وإن كان الكتاب مجازاً في الأمر الذي قضَاه الله وقدّره، على حدّ قوله‏:‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ أي الكتاب الثّابت في عِلم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنّه قدّره لهم من الخلود في العذاب، وأنّه لا يغفر لهم، ويَشْمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثمّ استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفاً بقوله‏:‏ ‏{‏ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وحمل كثير من المفسّرين النّصيب على ما ينالهم من الرّزق والإمهال في الدّنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فمن أظلم‏}‏ ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلاّ ليكون نوال النّصيب حاصلاً في مدّةٍ ممتدّة ليَكون مجيء الملائكة لتَوَفِّيهم غاية لانتهاء ذلك النّصيب، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقيّة في ‏(‏حتّى‏)‏‏.‏ وذلك غير ملتزَم، فإنّ حتّى الابتدائيّة لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره‏.‏

والمعنى‏:‏ إمّا أنّ كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه، فنصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه، وإمّا أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قُدر لأمثالهم من الأمم المكذّبين للرّسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدّنيا، فلا يغرنّهم تأخير ذلك لأنّه مُصيبهم لا محالة عند حلول أجله، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذّبت بها الأمم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءتهم رسلنا‏}‏ تفصيل لمضمون جملة ‏{‏ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ فالوقت الذي أفاده قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم‏}‏ هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لَقُوه في الدّنيا‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ ابتدائيّة لأنّ الواقع بعدها جملة فتفيد السّببيّة، فالمعنى‏:‏ ف ‏{‏إذا جاءتهم رسلنا‏}‏ إلخ، و‏(‏حَتّى‏)‏ الابتدائيه لها صدر الكلام فالغاية التي تدلّ عليها هي غاية مَا يُخبر به المخبر، وليست غايةَ ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتّى، لأنّ ذلك إنّما يُلتزم إذا كانت حتّى عاطفة، ولا تفيد إلاّ السّببيّة كما قال ابن الحاجب فهي لا تفيد أكثر من تسبّب ما قبلها فيما بعدها، قال الرضي؛ قال المصنف‏:‏ وإنّما وجب مع الرّفع السّببيّة لأنّ الاتّصال اللّفظي لمَّا زال بسبب الاستئناف شُرِط السّببيّة التي هي موجبة للاتّصال المعنوي، جبراً لما فات من الاتّصال اللّفظي، قال عَمرو بن شَأس‏:‏

نذود الملوك عنكُمُ وتذودُنا *** ولا صُلْحَ حتّى تَضبَعُونَ ونَضْبَعا

وقد تقدّم بعض هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏31‏)‏ و‏(‏حتّى‏)‏ الابتدائيّة تدلّ على أنّ مضمون الكلام الّذي بعدها أهمّ بالاعتناء للإلقاء عند المتكلّم لأنّه أجدى في الغرض المسوق له الكلام، وهذا الكلام الواقع هنا بعد ‏(‏حتّى‏)‏ فيه تهويلُ ما يصيبهم عند قبض أرواحهم، وهو أدخل في تهديدهم وترويعهم وموعظتهم، من الوعيد المتعارف، وقد هدّد القرآن المشركين بشدائد الموْت عليهم في آيات كثيرة لأنهم كانوا يرهبونه‏.‏ والرّسُل هم الملائكة قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل يتوفاكم ملك الموت‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏ وقال ‏{‏ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 50‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يتوفونهم‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏رُسلنا‏}‏ وهي حال معلِّلة لعاملها، كقوله‏:‏ ‏{‏ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 61، 62‏]‏ أي رسول لأبلّغكم ولأنْصحَ لكم‏.‏

والتّوفي نزع الرّوح من الجسد، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏55‏)‏ وهو المراد هنا، ولا جدوى في حمْلهِ على غير هذا المعنى، ممّا تردّد فيه المفسّرون، إلاّ أن المحافظة على معنى الغاية لحرف ‏(‏حتى‏)‏ فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعاً، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك‏.‏

ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفَّون آحادهم في أوقات متفرّقه إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمععِ والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملَك لمن وُكِّل بتوفّيهِ، على طريقة‏:‏ رَكِبَ القومُ دَوَابَّهم‏.‏ وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ أين ما كنتم تدعون من دون الله‏}‏ مستعمل في التّهكّم والتّأييس‏.‏

و ‏(‏مَا‏)‏ الواقعة بعد أين موصولة، يعني‏:‏ أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يَحْضُروكم، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أوراحهم، فقد جاء في حديث «الموطّأ»‏:‏ أنّ الميّت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمِنْ أهل الجنّة وإن كان من أهل النّار يقال له هذا مقعدك حتّى يبعثك الله‏.‏ وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏ضلّوا عنّا‏}‏ أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا، وهذا يقتضي أنّهم لَمَّا يعلمُوا أنّهم لا يُغنون عنهم شيئاً من النّفع، فظنّوا أنّهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم، ولم يعلموا سببه، لأنّ ذلك إنّما يتبيّن لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنّهم كانوا يدعونهم من دون الله بخلاف ما حُكي عنهم في يوم الحشر من قولهم‏:‏ ‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ ولذلك قال هنا‏:‏ ‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏، وقال في الآخرى‏:‏ ‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 24‏]‏‏.‏

والشّهادة هنا شهادة ضِمنية لأنّهم لما لم ينفُوا أن يكونوا يدْعُون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم‏.‏

فأمّا قوله‏:‏ ‏{‏قال ادخلوا في أمم‏}‏ فهذا قول آخر، ليس هو من المحاورة السّابقة، لأنّه جاء بصيغة الإفراد، والأقوالُ قبله مسندة إلى ضمائر الجمع، فتعيّن أنّ ضمير ‏(‏قال‏)‏ عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حينَ أوّل قدومهم على الحياة الآخرة، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيَكون خطاباً صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قِبَل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النار، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم‏.‏ والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة‏.‏

ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة، فذُكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالاً لذكر حال مصيرهم، وتخلّصاً إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم‏.‏ وأيَّاً مّا كان فالإتيان بفعل القول، بصيغه الماضي‏:‏ للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر‏.‏

ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏قال ادخلوا في أمم‏}‏ في موضع عطف البيان لجملة ‏{‏ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ أي‏:‏ قال الله فيما كتبه لهم ‏{‏ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم‏}‏

‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ أي أمثالكم، والتّعبير بفعل المضي جرَى على مقتضى الظّاهر‏.‏

والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏ولكل أمة أجل‏}‏‏.‏

و ‏(‏في‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏في أمم‏}‏ للظّرفية المجازيّة، وهي كونهم في حالة واحدة وحكممٍ واحد، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بَعدهم، وهي بمعنى ‏(‏مع‏)‏ في تفسير المعنى، ونقل عن صاحب «الكشاف» أنه نظَّر ‏(‏في‏)‏ التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة‏:‏

إنْ تَكُنْ عن حسن الصّنيعة مأفُو *** كاً ففي آخرينَ قد أُفِكُوا

ومعنى‏:‏ ‏{‏قد خلت‏}‏ قد مضت وانقرضت قبلكم، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك أمة قد خلت‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏134‏)‏، يعني‏:‏ أنّ حالهم كحال الأمم المكذّبين قبلَهم، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدّنيا كقوله‏:‏ ‏{‏وتبين لكم كيف فعلنا بهم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 45‏]‏ وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك، وتصريح بأنّهم في عذاب النّار سواء‏.‏

جملة‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أمة لعنت أختها‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، لوصف أحوالهم في النّار، وتفظيعها للسّامع، ليتّعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنين بالسّلامة ممّا أصابهم فتكون جملة ‏{‏حتى إذا اداركوا‏}‏ داخلة في حيز الاستيناف‏.‏

ويجوز أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أمة‏}‏ معترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار‏}‏ وبين جملة‏:‏ ‏{‏حتى إذا أداركوا فيها‏}‏ إلخ‏.‏ على أن تكون جملة ‏{‏حتى إذا اداركوا‏}‏ مرتبطة بجملة ‏{‏ادخلوا في أمم‏}‏ بتقدير محذوف تقديره‏:‏ فيدخلون حتّى إذا اداركوا‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏كلّما‏}‏ ظرفية مصدريّة، أي كلّ وقت دخول أمّة لعنت أختها‏.‏ والتّقدير‏:‏ لعنت كلّ أمّة منهم أختها في كلّ أوقات دخول الأمّة منهم، فتفيد عموم الأزمنة‏.‏

و ‏{‏أمّة‏}‏ نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة، فتفيد العموم، أي كلّ أمة دخلت، وكذلك‏:‏ ‏{‏أختَها‏}‏ نكرة لأنّه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرّف فتفيد العموم أيضاً، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها، والمراد بأختها المماثِلة لها في الدّين الذي أوجب لها الدّخول في النّار، كما يقال‏:‏ هذه الأمّة أخت تلك الأمّة إذا اشتركتا في النّسب، فيقال‏:‏ بَكْر وأختها تغلب، ومنه قول أبي الطبيّب‏:‏

وكطَسْم وأُخْتِها في البعاد ***

يريد‏:‏ كَطَسم وجَدِيس‏.‏

والمقام يعيّن جهة الأخوّة، وسبَبُ اللّعن أنّ كل أمّة إنّما تدخل النّار بعد مناقشة الحساب، والأمر بإدخالهم النّار، وإنّما يقع ذلك بعد أن يتبيّن لهم أنّ ما كانوا عليه من الدّين هو ضلال وباطل، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه، لأنّ النّفوس تكره الضّلال والباطل بعد تبيُّنه، ولأنّهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلبة العقاب لهم فيزدادون بذلك كراهيّة لدينهم، فإذا دخلوا النّار فرأوا الأمم التي أدخلت النّار قبلهم علموا، بوجه من وجوه العلم، أنّهم أُدخلوا النّار بذلك السّبب فلعنوهم لكراهيّة دينهم ومن اتّبعوه‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بأختها أسلافها الذين أضلّوها‏.‏

وأفادت ‏{‏كلّما‏}‏ لما فيها من معنى التّوقيت‏:‏ أنّ ذلك اللّعن يقع عند دخول الأمّة النّار، فيتعيّن إذن أن يكون التّقدير‏:‏ لعنت أختها السّابقة إياها في الدّخول في النّار، فالأمّة التي تدخل النّار أوّل مرّة قبل غيرها من الأمم لا تَلْعن أختها، ويعلم أنّها تلعن من يدخل بعدَها الثّانيةَ، ومن بعدها بطريق الأوْلى، أو ترُدّ اللّعن على كلّ أخت لاعنة‏.‏ والمعنى‏:‏ كلّما دخلت أمّة منهم بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏لعنت أختها‏}‏‏.‏

و ‏(‏حتّى‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا اداركوا‏}‏ ابتدائيّة، فهي جملة مستأنفة وقد تقدّم في الآية قبل هذه أن ‏(‏حتّى‏)‏ الابتدائيّة تفيد معنى التّسبّب، أي تسبّب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها، فيجوز أن تكون مترتِبَة في المعنى على مضمون قوله‏:‏ ‏{‏قال أدخلوا في أمم قد خلت‏}‏ إلخ، ويجوز أن تكون مترتّبة على مضمون قوله‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أمة لعنت أختها‏}‏‏.‏

و ‏{‏اداركوا‏}‏ أصله تَداركوا فقلبت التّاء دَالا ليتأتى إدغامها في الدّال للتّخفيف، وسُكنت ليتحقّق معنى الإدغام المتحركين، لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالسّاكن، وهذا قلْب ليس بمتعيّن، وإنّما هو مستحسن، وليس هو مثل قلب التّاء في ادّان وازْداد وادّكر‏:‏ ومعناه‏:‏ أدرك بعضهم بعضاً، فصيغ من الإدراك وزن التّفاعل، والمعنى‏:‏ تلاحقوا واجتمعوا في النّار‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ حال من ضمير ‏{‏اداركوا‏}‏ لتحقيق استيعاب الاجتماع، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضّلال كلّها‏.‏

والمراد‏:‏ ب ‏{‏أخراهم‏}‏‏:‏ الآخِرة في الرّتبة، وهم الأتباع والرّعيّة من كلّ أمّة من تلك الأمم، لأنّ كلّ أمّة في عصر لا تخلو من قادة ورَعاع، والمراد بالأولى‏:‏ الأولى في المرتبة والاعتبار، وهم القادة والمتبوعون من كلّ أمّة أيضاً، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفَين محذوفين، أي أخرى الطّوائف لأولاهم، وقيل‏:‏ أريد بالأخرى المتأخّرة في الزّمان، وبالأولى أسلافهم، لأنّهم يقولون‏:‏ ‏{‏إنّا وجدنا آباءنا على أمة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وهذا لا يلائم ما يأتي بعده‏.‏

واللاّم في‏:‏ ‏{‏لأولاَهم‏}‏ لام العلّة، وليست اللاّم التي يتعدّى بها فعل القَول، لأنّ قول الطائفة الأخيرة موجَّه إلى الله تعالى، بصريح قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا هؤلاء أضلونا‏}‏ إلخ، لا إلى الطّائفة الأولى، فهي كاللاّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والضعف بكسر الضّاد المِثْل لمقدار الشّيء، وهو من الألفاظ الدّالة على معنى نسبي يقتضي وجودَ معنى آخر، كالزّوج والنِّصف، ويختص بالمقدار والعدد، هذا قول أبي عبيدة والزّجاج وأيمّة اللّغة، وقد يستعمل فعله في مطلق التّكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار، مثل العذاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضَاعَفْ له العذاب يوم القيامة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 69‏]‏ وقوله ‏{‏يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 30‏]‏ أراد الكثرة القويّة فقولهم هنا ‏{‏فآتهم عذاباً ضعفا‏}‏ أي أعطهم عذاباً هو ضِعف عذاببٍ آخر، فعُلم أنّه، آتاهم عذاباً، وهم سألوا زيادة قوّة فيه تبلغ ما يعادل قوّته، ولذلك لما وصف بضعف علم أنّه مِثْلٌ لعذاببٍ حصل قبله إذ لا تقول‏:‏ أكرمت فلان ضِعفاً، إلاّ إذا كان إكرامك في مقابلة إكراممٍ آخر، فأنت تزيده، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنّهم علموا أنّ الضّلال سبب العذاب، فعلموا أنّ الذين شرعوا الضّلال هم أولى بعقوبة أشدّ من عقوبة الذين تقلّدوه واتبعوهم، كما قال تعالى في الآية الآخرى‏:‏

‏{‏يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وفعل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ حكاية لجواب الله إياهم عن سُؤالهم مضاعفةَ العذاب لقادتهم، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات، والتّنوينُ في قوله‏:‏ ‏{‏لكلّ‏}‏ عوض عن المضاف إليه المحذوف، والتّقدير‏:‏ لكلّ أمّة، أو لكلّ طائفة ضعف، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذّبه أولَ الأمر، فأمّا مضاعفة العذاب للقادة فلأنّهم سنّوا الضّلال أو أيّدوه ونصروه وذبّوا عنه بالتّمويه والمغالطات فأضلوا، وأمّا مضاعفته للأتباع فلأنَهم ضلّوا بإضلال قادتهم، ولأنّهم بطاعتهم العمياء لقادتهم، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم، وإعطائِهم إياهم الأموال والرّشى، يزيدونهم طغياناً وجراءة على الإضلال ويغرّونهم بالازدياد منه‏.‏

والاستدراك في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن لا تعلمون‏}‏ لرفع ما تُوهِمه التّسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب‏:‏ أنّ التّغليظ على الأتباع بلا موجب، لأنّهم لولا القادة لما ضلّوا، والمعنى‏:‏ أنّكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني، فلذلك ظننتم أنّ موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنّهم علّموكم الضّلال، ولو علمتم حقّ العلم لاطّلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال‏.‏ ومفعول ‏{‏تعلمون‏}‏ محذوف دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏لكللٍ ضِعف‏}‏، والتّقدير‏:‏ لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكلّ من الطّائفتين، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنّهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلّوهم‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لا تَعلمون‏}‏ بتاء الخطاب على أنّه من تمام ما خاطب الله به الأمّة الأخرى، وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة فيكون بمنزلة التّذييل خطاباً لسامعي القرآن، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يَعلمون أنّ لكلّ ضعفاً فلذلك سألوا التّغليظ على القادة فأجيبوا بأنّ التّغليظ قد سُلّط على الفريقين‏.‏

وعُطفتْ جملة‏:‏ ‏{‏وقالت أولاهم لأخراهم‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏قالت آخراهم لأولاهم‏}‏ لأنّهم لم يَدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة‏.‏

والفاء في قولهم‏:‏ ‏{‏فما كان لكم علينا من فضل‏}‏ فاء فصيحة، مرتبة على قول الله تعالى ‏{‏لكل ضعف‏}‏ حيث سوّى بين الطّائفتين في مضاعفة العذاب‏.‏ و‏(‏مَا‏)‏ نافية‏.‏ و‏(‏مِنْ‏)‏ زائدة لتأكيد نفي الفضل، لأنّ إخبار الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏لكل ضعف‏}‏ لا

وقوله‏:‏ ‏{‏فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون‏}‏ يجوز أن يكون من كلام أولاهم‏:‏ عَطَفوا قولهم‏:‏ ‏{‏ذوقوا العذاب‏}‏ على قولهم‏:‏ ‏{‏فما كان لكم علينا من فضل‏}‏ بفاء العطف الدّالة على التّرتب‏.‏

فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضّعف ترتَّب على تحقّق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأنّ لهم عذاباً ضعفاً‏.‏

وصيغة الأمر في قولهم‏:‏ ‏{‏فذوقوا‏}‏ مستعملة في الإهانة والتشفّي‏.‏

والذّوق استُعمل مجازاً مرسلاً في الإحساس بحاسّة اللّمس، وقد تقدّم نظائره غير مرّة‏.‏

والباء سببيّة، أي بسبب ما كنتم تكسبون ممّا أوجب لكم مضاعفة العذاب، وعبّر بالكسب دون الكفر لأنّه أشمل لأحوالهم، لأنّ إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحبّ الفخر والاغرَاب بما علّموهم وَمَا سَنْوا لهم، فشمل ذلك كلَّه أنّه كسب‏.‏

يجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون‏}‏ من كلام الله تعالى، مخاطباً به كلا الفريقين، فيكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏لكل ضعف ولكن لا تعلمون‏}‏ ويكون قوله‏:‏ ‏{‏وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل‏}‏ جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فذوقوا‏}‏ للتكوين والإهانة‏.‏

وفيما قصّ الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يَزِجّ بهم في الضّلالة، ويحسِّن لهم هواهم، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم، ولا يبلغهم النّصيحة، وفي الحديث‏:‏ «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي مسوق لتحقيق خلود الفريقين في النّار، الواقععِ في قوله‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 36‏]‏ فأخبر الله بأنّه حرمهم أسباب النّجاة، فَسَدّ عليهم أبواب الخير والصّلاح، وبأنّه حرّمهم من دخول الجنّة‏.‏

وأكّد الخبر ب ‏{‏إنّ‏}‏ لتأييسهم من دخول الجنّة، لدفع توهّم أن يكون المراد من الخلود المتقدّم ذكرُه الكنايةَ عن طول مدّة البقاء في النّار فإنّه ورد في مواضع كثيرة مراداً به هذا المعنى‏.‏

ووقع الإظهار في مقام الإضمار لدفع احتمال أن يكون الضّمير عائداً إلى إحدى الطّائفتين المتحاورتين في النّار، واختير من طرق الإظهار طريق التّعريف بالموصول إيذاناً بما تومئ إليه الصّلة من وجه بناءِ الخبر، أي‏:‏ إنّ ذلك لأجل تكذيبهم بآيات الله واستكبارهم عنها، كما تقدّم في نظيرها السّابق آنفاً‏.‏

والسّماءُ أطلقت في القرآن على معاننٍ، والأكثر أن يراد بها العوالم العليا غير الأرضيّة، فالسّماء مجموع العوالم العليا وهي مَراتب وفيها عوالم القُدس الإلهيّةُ من الملائكة والرّوحانيات الصّالحة النّافعة، ومصدرُ إفاضة الخيرات الرّوحيّة والجثمانيّة على العالم الأرضي، ومصدَرُ المقادير المقدّرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفي السماء رزقكم وما توعدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏، فالسّماء هنا مراد بها عالم القدس‏.‏

وأبوابُ السّماء أسبابُ أمور عظيمة أطلق عليها اسم الأبواب لتقريب حقائقها إلى الأذهان فمنها قبول الأعمال، ومسالكُ وصول الأمور الخيّريّة الصّادرة من أهل الأرض، وطرق قبولها، وهو تمثيل لأسباب التّزكية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والعمل الصالح يرفعه‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏، وما يعلم حقائقها بالتّفصيل إلاّ الله تعالى، لأنّها محجوبة عنّا، فكما أنّ العفاة والشّفعاء إذا وَرَدُوا المكان قد يُقبلون ويُرضى عنهم فتُفْتَح لهم أبواب القصور والقباب ويُدخلون مُكرّمين، وقد يردّون ويُسخطون فتوصد في وجوههم الأبوابُ، مُثِّل إقصاء المكذّبين المستكبرين وعدمُ الرّضا عنهم في سائر الأحوال، بحال من لا تفتَح له أبواب المنازل، وأضيفت الأبواب إلى السّماء ليظهر أنّ هذا تمثيل لحرمانهم من وسائل الخيرات الإلهيّة الروحية، فيشمل ذلك عدم استجابة الدّعاء، وعدم قبول الأعمال والعبادات، وحرمان أرواحهم بعد الموت مشاهدة مناظر الجنّة ومقاعد المؤمنين منها، فقوله‏:‏ ‏{‏لا نفتح لهم أبواب السماء‏}‏ كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الخيرات الإلهيّة المحضة، وإن كانوا ينالون من نِعم الله الجثمانية ما يناله غيرهم، فيغاثون بالمَطَر، ويأتيهم الرّزق من الله، وهذا بيان لحال خذلانهم في الدّنيا الحائل بينهم وبين وسائل دخول الجنّة‏.‏ كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم «كلّ ميسَّر لِمّا خُلِق له» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 5 10‏]‏‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوبُ‏:‏ ‏{‏لا تُفَتَّح‏}‏ بضمّ التّاء الأولى وفتح الفاء والتّاءِ الثّانية مشدّدة وهو مبالغة في فَتح، فيفيد تحقيق نفي الفتح لهم، أو أشير بتلك المبالغة إلى أن المنفي فتح مخصوص وهو الفتح الذي يفتح للمؤمنين، وهو فتح قوي، فتكون تلك الإشارة زيادة في نكايتهم‏.‏

وقرأ أبو عَمرو بضمّ التّاء الأولى وسكون الفاء وفتح التّاء الثّانية مخفّفة‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلَف ‏{‏لا يُفتَحُ‏}‏ بمثنّاة تحتيّة في أوّله مع تخفيف المثنّاة الفوقيه مفتوحة على اعتبار تذكير الفعل لأجل كون الفاعل جمعاً لمذكّر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يدخلون الجنّة‏}‏ اخبار عن حالهم في الآخرة وتحقيق لخلودهم في النّار‏.‏

وبعد أن حُقّق ذلك بتأكيد الخبر كلّه بحرف التّوكيد، زيد تأكيداً بطريق تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه، المشتهرِ عند أهل البيان بتأكيد المدح بما يُشْبه الذّم، وذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يلج الجمل في سم الخياط‏}‏ فقد جعل لانتفاء دخولهم الجنّة امتداداً مستمراً، إذْ جعل غايته شيئاً مستحيلاً، وهو أن يَلج الجمل في سَمّ الخياط، أي لو كانت لانتفاء دخولهم الجنّة غايةٌ لكانت غايتُه ولوجَ الجْمل وهو البعير في سَمّ الخِياط، وهو أمر لا يكون أبداً‏.‏

والجَمَل‏:‏ البعير المعروف للعرب، ضُرب به المثل لأنّه أشهر الأجسام في الضّخامة في عرف العرب‏.‏ والخِياط هو المِخْيَط بكسر الميم وهو آلة الخياطة المسمّى بالإبْرَة، والفِعال وَرَدَ اسماً مرادفاً للمِفعَل في الدّلالة على آلةِ الشّيء كقولهم حِزَام ومِحْزم، وإزار ومِئْزر، ولِحاف ومِلحَف، وقِناع ومِقنع‏.‏

والسَمّ‏:‏ الخَرْت الذي في الإبرة يُدخل فيه خيط الخائط، وهو ثقب ضيّق، وهو بفتح السّين في الآية بلغة قريش وتضمّ السّين في لغة أهل العالية‏.‏ وهي ما بين نجد وبين حدود أرض مكّة‏.‏

والقرآن أحال على ما هو معروف عند النّاس من حقيقة الجَمل وحقيقة الخِياط، ليعلم أنّ دخول الجمل في خَرْت الإبرة محال متعذّر ما داما على حاليهما المتعارفين‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ إشارة إلى عدم تفتّح أبواب السّماء الذي تضمّنه قوله‏:‏ ‏{‏لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة‏}‏ أي، ومثل ذلك الانتفاء، أي الحرمان نجزي المجرمين لأنّهم بإجرامهم، الذي هو التّكذيب والإعراض، جعلوا أنفسهم غير مكترثين بوسائل الخير والنّجاة، فلم يتوخّوها ولا تطلبوها، فلذلك جزاهم الله عن استكبارهم أن أعرض عنهم، وسدّ عليهم أبواب الخيرات‏.‏

وجملة ‏{‏وكذلك نجزي المجرمين‏}‏ تذييل يؤذن بأنّ الإجرام هو الذي أوقعهم في ذلك الجزاء، فهم قد دخلوا في عموم المجرمين الذين يجْزون بمثل ذلك الجزاء، وهم المقصود الأوّل منهم، لأنّ عقاب المجرمين قد شُبّه بعقاب هؤلاء، فعلم أنّهم مجرمون، وأنّهم في الرّعيل الأوّل من المجرمين، حتّى شُبِّه عقاب عموم المجرمين بعقاب هؤلاء وكانوا مثَلا لذلك العموم‏.‏

والإجرام‏:‏ فعل الجُرْم بضمّ الجيم وهو الذنْب، وأصل‏:‏ أجرم صار ذا جُرم، كما يقال‏:‏ ألْبَنَ وأتمر وأخْصَب‏.‏

والمِهاد بكسر الميم ما يُمْهَد أي يفرش، و«غواش» جمع غاشية وهي مَا يغشى الإنسانَ، أي يغطّيه كاللّحاف، شبّه ما هو تحتهم من النّار بالمِهاد، وما هو فوقهم منها بالغواشي، وذلك كناية عن انتفاء الرّاحة لهم في جهنّم، فإنّ المرء يحتاج إلى المهاد والغاشية عند اضطجاعه للرّاحة، فإذا كان مهادهم وغاشيتهم النّار‏.‏ فقد انتفت راحتهم، وهذا ذِكر لعذابهم السّوء بعد أن ذكر حِرمانهم من الخير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏غَواش‏}‏ وصف لمقدّر دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏من جهنّم‏}‏، أي ومن فوقهم نيران كالغواشي‏.‏ وذّيله بقوله‏:‏ ‏{‏وكذلك نَجزي الظالمين‏}‏ ليدلّ على أن سبب ذلك الجزاء بالعقاب‏:‏ هو الظلمُ‏.‏ وهو الشّرك‏.‏ ولمّا كان جزاء الظّالمين قد شبّه بجزاء الذين كذّبوا بالآيات واستكبروا عنها، علم أنّ هؤلاء المكذّبين من جملة الظّالمين‏.‏ وهم المقصود الأوّل من هذا التّشبيه، بحيث صاروا مثلاً لعموم الظالمين، وبهذين العمومين كان الجملتان تذييلين‏.‏

وليس في هذه الجملة الثّانية وضع الظّاهر موضع المضمر‏:‏ لأنّ الوصفين، وإن كانا صادقين معاً على المكذّبين المشبَّهِ عقابُ أصحاب الوصفين بعقابهم‏.‏ فوصف المجرمين أعمّ مفهوماً من وصف الظّالمين، لأنّ الإجرام يشمل التّعطيل والمجوسيّة بخلاف الإشراك‏.‏ وحقيقة وضع المظهر موقع المضمر إنّما تتقوّم حيث لا يكون للاسم الظّاهر المذكور معنى زائد على معنى الضّمير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

أُعقب الإنذار والوعيد للمكذّبين، بالبشارة والوعد للمؤمنين المصدّقين على عادة القرآن في تعقيب أحد الغرضين بالآخر‏.‏

وعُطف على‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 40‏]‏ أي‏:‏ وإنّ الذين آمنوا وعملوا الصّالحات إلخ، لأنّ بين مضمون الجملتين مناسبة متوسّطة بين كمال الاتّصال وكمال الانقطاع، وهو التّضاد بين وصف المسندِ إليهما في الجملتين، وهو التّكذيب بالآيات والإيمانُ بها، وبين حكم المسنَدَيْن وهو العذابُ والنّعيم، وهذا من قبيل الجامع الوهمي المذكور في أحكام الفصل والوصل من عِلم المعاني‏.‏

ولم يذكر متعلِّقٌ ل ‏{‏آمنوا‏}‏ لأنّ الإيمان صار كاللّقب للإيمان الخاص الذي جاء به دين الإسلام وهو الإيمان بالله وحده‏.‏

واسم الإشارة مبتدأ ثان، و‏{‏أصحاب الجنّة‏}‏ خبره والجملة خبر عن ‏{‏الذين آمنوا‏}‏‏.‏ وجملة ‏{‏لا نكلف نفساً إلا وسعها‏}‏ معترضة بين المسند إليه والمسند على طريقة الإدماج‏.‏ وفائدة هذا الإدماج الارتفاق بالمؤمنين، لأنّه لمّا بشّرهم بالجنّة على فعل الصّالحات أطْمن قلوبهم بأن لا يُطلبوا من الأعمال الصّالحة بما يخرج عن الطّاقة، حتّى إذا لم يبلغوا إليه أيسوا من الجنّة، بل إنّما يُطلبون منها بما في وسعهم، فإنّ ذلك يرضي ربّهم‏.‏

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنّه قال، في هذه الآية، إلاّ يُسرها لا عُسْرها أي قاله على وجه التّفسير لا أنّه قراءة‏.‏

والوُسْع تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفساً إلا وسعها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏286‏)‏‏.‏

ودلّ قوله‏:‏ أولئك أصحاب الجنة‏}‏ على قصر ملازمة الجنّة عليهم، دون غيرهم، ففيه تأييس آخر للمشركين بحيث قويت نصيّة حرمانهم من الجنّة ونعيمها، وجملة‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏ حال من اسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

انتساق النّظم يقتضي أن تكون جملة‏:‏ ‏{‏تجري من تحتهم الأنهار‏}‏ حالاً من الضّمير في قوله‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏، وتكونَ جملة‏:‏ ‏{‏ونزعنا‏}‏ مُعترضة بين جملة‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏، وجملة‏:‏ ‏{‏وقالوا الحمد لله‏}‏ إلخ، اعترضاً بُيِّنَ به حال نفوسهم في المعاملة في الجنّة، ليقابِل الاعتراض الذي أُدمِج في أثناءِ وصف عذاب أهل النّار، والمبيّن به حال نفوسهم في المعاملة بقوله‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أمة لعنت أختها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

والتّعبير عن المستقبل بلفظ الماضي للتّنبيه على تحقّق وقوعه، أي‏:‏ وننزع ما في صدورهم من غِل، وهو تعبير معروف في القرآن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

والنّزْع حقيقته قلع الشّيء من موضعه وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتنزع الملك ممن تشاء‏}‏ في آل عمران ‏(‏26‏)‏، ونَزْع الغِل من قلوب أهل الجنّة‏:‏ هو إزالة ما كان في قلوبهم في الدّنيا من الغِلّ عند تلقي ما يسوء من الغَيْر، بحيث طَهّر الله نفوسهم في حياتها الثّانية عن الانفعال بالخواطر الشرّية التي منها الغِلّ، فزال ما كان في قلوبهم من غِلّ بعضهم من بعض في الدّنيا، أي أزال ما كان حاصلاً من غلّ وأزال طباع الغلّ التي في النّفوس البشريّة بحيث لا يخطر في نفوسهم‏.‏

والغِلّ‏:‏ الحقد والإحْنَة والضِغْن، التي تحصل في النّفس عند إدراك ما يسوؤها من عمل غيرها، وليس الحسد من الغِلّ بل هو إحساس باطني آخر‏.‏

وجملة‏:‏ تجري من تحتهم الأنهار‏}‏ في موضع الحال، أي هم في أمكنة عالية تشرف على أنهار الجنّة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وقالوا الحمد لله‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏‏.‏

والتّعبير بالماضي مراد به المستقبل أيضاً كما في قوله‏:‏ ‏{‏ونزعنا‏}‏ وهذا القول يحتمل أن يكونوا يقولونه في خاصتهم ونفوسهم، على معنى التّقرب إلى الله بحمده، ويحتمل أن يكونوا يقولونه بينهم في مجامعهم‏.‏

والإشارة في قولهم‏:‏ ‏{‏لهذا‏}‏ إلى جميع ما هو حاضر من النّعيم في وقت ذلك الحمد، والهداية له هي الإرشاد إلى أسبابه، وهي الإيمان والعمل الصّالح، كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يهديهم ربهم بإيمانهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 9‏]‏ الآية، وجعل الهداية لنفس النّعيم لأنّ الدّلالة على ما يوصل إلى الشّيء إنّما هي هداية لأجل ذلك الشّيء، وتقدّم الكلام على فعل الهداية وتعديته في سورة الفاتحة ‏(‏6‏)‏‏.‏

والمراد بهَدْي الله تعالى إياهم إرساله محمّداً صلى الله عليه وسلم إليهم فأيقظهم من غفلتهم فاتَّبعوه، ولم يعاندوا، ولم يستكبروا، ودلّ عليه قولهم‏:‏ ‏{‏لقد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏ مع ما يسّر الله لهم من قبولهم الدّعوة وامتثالهم الأمر، فإنّه من تمام المنّة المحمود عليها، وهذا التّيسير هو الذي حُرّمه المكذّبون المستكبرون لأجل ابتدائهم بالتّكذيب والاستكبار، دون النّر والاعتبار‏.‏

وجملة ‏{‏وما كنا لنهتدي‏}‏ في موضع الحال من الضّمير المنصوب، أي هدانا في هذه الحال حال بعدنا عن الاهتداء، وذلك ممّا يؤذن بكبر منّة الله تعالى عليهم، وبتعظيم حمدهم وتجزيله، ولذلك جاءوا بجملة الحمد مشتملة على أقصى ما تشتمل عليه من الخصائص التي تقدّم بيانها في سورة الفاتحة ‏(‏6‏)‏‏.‏

ودلّ قوله‏:‏ ‏{‏وما كنا لنهتدي‏}‏ على بعد حالهم السّالفة عن الاهتداء، كما أفاده نفي الكَون مع لام الجحود، حسبما تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوءة‏}‏ الآية في سورة آل عمران ‏(‏79‏)‏، فإنّهم كانوا منغمسين في ضلالات قديمة قد رسخت في أنفسهم، فأمّا قادتهم فقد زيّنها الشّيطان لهم حتى اعتقدوها وسنّوها لمن بعدهم، وأمّا دَهْمَاؤُهم وأخلافهم فقد رأوا قدوتهم على تلك الضّلالات‏.‏ وتأصّلت فيهم، فما كان من السّهل اهتداؤُهم، لولا أنْ هداهم الله ببعثة الرّسل وسياستهم في دعوتهم، وأن قذف في قلوبهم قبول الدّعوة‏.‏

ولذلك عقبوا تحميدهم وثناءهم على الله بقولهم‏:‏ لقد جاءت رسل ربنا بالحقّ‏}‏ فتلك جملة مستأنفة، استئنافاً ابتدائياً، لصدورها عن ابتهاج نفوسهم واغتباطهم بما جاءتهم به الرّسل، فجعلوا يتذكّرون أسباب هدايتهم ويعتبرون بذلك ويغتبطون‏.‏ تلذذاً بالتّكلّم به، لأن تذكّر الأمر المحبوب والحديثَ عنه ممّا تلذّ به النّفوس، مع قصد الثّناء على الرّسل‏.‏

وتأكيد الفعل بلام القسم وبقَدْ، مع أنهم غير منكرين لمجيء الرسل‏:‏ إما لأنّه كناية عن الإعجاب بمطابقة ما وعدهم به الرّسل من النّعيم لما وجدوه مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 71‏]‏ وقول النّبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى‏:‏ «أعددت»‏.‏ وإمّا لأنّهم أرادوا بقولهم هذا الثّناء على الرّسل والشّهادة بصدقهم جمعاً مع الثّناء على الله، فأتَوا بالخبر في صورة الشّهادة المؤكّدة التي لا تردّد فيها‏.‏

وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏ما كنّا لنهتدي‏}‏ بدون واو قبل ‏(‏ما‏)‏ وكذلك كتبت في المصحف الإمام الموجّه إلى الشّام، وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملة مفصولة عن التي قبلها، على اعتبار كونها كالتّعليل للحمد، والتّنويه بأنّه حمد عظيم على نعمة عظيمة، كما تقدّم بيانه‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ونودوا‏}‏ معطوفة على جملة‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ فتكون حالاً أيضاً، لأنّ هذا النّداء جواب لثنائهم، يدلّ على قبول ما أثْنَوا به، وعلى رضى الله عنهم، والنّداء من قبل الله، ولذلك بُني فعله إلى المجهول لظهور المقصود‏.‏ والنّداء إعلان الخطاب، وهو أصل حقيقته في اللّغة، ويطلق النّداء غالباً على دعاء أحد ليقبل بذاته أو بفهمه لسماع كلام، ولو لم يكن برفع صوت‏:‏ ‏{‏إذ نادى ربَّه نداء خفياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 3‏]‏ ولهذا المعنى حروف خاصة تدلّ عليه في العربيّه، وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وناداهما ربهما‏}‏ في هذه السّورة ‏(‏22‏)‏‏.‏

و ‏(‏أنْ‏)‏ تفسير ‏{‏لنودوا‏}‏، لأنّ النّداء فيه معنى القول‏.‏ والإشارة إلى الجنّة ب ‏{‏تلكم‏}‏، الذي حقّه أن يستعمل في المشار إليه البعيد، مع أنّ الجنّة حاضرة بين يديهم، لقصد رفعة شأنها وتعظيم المنّة بها‏.‏

والإرث حقيقته مصير مال الميت إلى أقرب النّاس إليه، ويقال‏:‏ أورثَ الميّت أقرباءه ماله، بمعنى جعلهم يرثونه عنه، لأنّه لما لم يصرفه عنهم بالوصيّة لغيره فقد تركه لهم، ويطلق مجازاً على مصير شيء إلى حد بدون عوض ولا غصب تشبيهاً بإرث الميّت، فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏أورثتموها‏}‏ أعطيتموها عطيّة هنيئة لا تعب فيها ولا منازعة‏.‏

والباء في قوله‏:‏ ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ سببيّة أي بسبب أعمالكم، وهي الإيمان والعمل الصّالح، وهذا الكلام ثناء عليهم بأنّ الله شكر لهم أعمالهم، فأعطاهم هذا النّعيم الخالد لأجل أعمالهم، وأنّهم لما عملوا ما عملوه من العمل ما كانوا ينوون بعملهم إلا السّلامة من غضب ربّهم وتطلبَ مرضاته شكراً له على نعمائه، وما كانوا يمُتون بأن توصلهم أعمالهم إلى ما نالوه، وذلك لا ينافي الطّمع في ثوابه والنّجاة من عقابه، وقد دلّ على ذلك الجمعُ بين ‏{‏أورثتموها‏}‏ وبين باء السّببيّة‏.‏

فالإيراث دلّ على أنّها عطيّة بدون قصد تعاوُضضٍ ولا تعاقُد، وأنّها فضلٌ محض من الله تعالى، لأنّ إيمان العبد بربّه وطاعته إياه لا يوجب عقلاً ولا عدْلاً إلاّ نجاتَه من العقاب الذي من شأنه أن يترتّب على الكفران والعصيان، وإلاّ حُصولَ رضى ربّه عنه، ولا يوجب جزاء ولا عطاء، لأنّ شكر المنعم واجب، فهذا الجزاء وعظمته مجرّد فضل من الرّب على عبده شكراً لإيمانه به وطاعته، ولكن لما كان سبب هذا الشّكر عند الرّب الشّاكر هو عمل عبده بما أمره به، وقد تفضّل الله به فوعد به من قبللِ حصوله‏.‏ فمن العجب قول المعتزلة بوجوب الثّواب عقلاً، ولعلّهم أوقعهم فيه اشتباه حصول الثّواب بالسّلامة من العقاب، مع أنّ الواسطة بين الحالين بيّنة لأولي الألباب‏.‏ وهذا أحسن ممّا يطيل به أصحابنا معهم في الجواب‏.‏

وباء السّببيّة اقتضت الذي أعطاهم منازل الجنّة أراد به شكر أعمالهم وثوابها من غير قصد تعاوض ولا تقابل فجعلها كالشيء الذي استحقّه العامل عوضاً عن عمله فاستعار لها باء السّببيّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب الجنّة‏}‏ يجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ إلخ، عطفَ القول على القول، إذْ حكي قولهم المنبيءُ عن بهجتهم بما هم فيه من النّعيم، ثمّ حكي ما يقولونه لأهل النّار حينما يشاهدونهم‏.‏

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏ عطف القصّة على القصّة بمناسبة الانتقال من ذكر نداء من قبل الله إلى ذكر مناداة أهل الآخرة بعضِهم بعضاً، فعلى الوجهين يكون التعبير عنهم بأصحاب الجنّة دون ضميرهم توطئة لذكر نداء أصحاب الأعراف ونداء أصحاب النّار، ليعبَّر عن كلّ فريق بعنوانه وليكون منه محسن الطباق في مقابلته بقوله‏:‏ ‏{‏أصحاب النار‏}‏‏.‏

وهذا النّداء خطاب من أصحاب الجنّة، عبّر عنه بالنّداء كناية عن بلوغه إلى أسماع أصحاب النّار من مسافة سحيقة البُعد، فإن سعة الجنّة وسعة النّار تقتضيان ذلك لا سيما قوله‏:‏ ‏{‏وبينهما حجاب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 46‏]‏، ووسيلة بلوغ هذا الخطاب من الجنّة إلى أصحاب النّار وسيلة عجيبة غير متعارفة‏.‏ وعلم الله وقدرتُه لا حدّ لمتعلّقاتهما‏.‏

و ‏(‏أنّ‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أن قد وجدنا‏}‏ تفسيرية للنّداء‏.‏ والخبر الذي هو قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا‏}‏ مستعمل في لازم معناه وهو الاغتباط بحالهم، وتنغيص أعدائهم بعلمهم برفاهيّة حالهم، والتوركُ على الأعداء إذ كانوا يحسبونهم قد ضلّوا حين فارقوا دين آبائهم، وأنّهم حَرموا أنفسهم طيّبات الدّنيا بالانكفاف عن المعاصي، وهذه معاننٍ متعدّدة كلّها من لوازم الإخبار، والمعاني الكنائيّة لا يمتنع تعدّدها لأنّها تبع للّوازممِ العقليّة، وهذه الكناية جمع فيها بين المعنى الصّريح والمعاني الكنائيّة، ولكنّ المعاني الكنائيّة هي المقصودة إذ ليس القصد أن يَعلم أهل النّار بما حصل لأهل الجنّة ولكن القصد ما يلزم عن ذلك‏.‏ وأمّا المعاني الصّريحة فمدلولة بالأصالة عند عدم القرينة المانعة‏.‏

والاستفهام في جملة‏:‏ ‏{‏فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا‏}‏ مستعمل مجازاً مرسلاً بعلاقة اللّزوم في توقيف المخاطبين على غلطهم، واثارة ندامتهم وغمّهم على ما فرط منهم، والشّماتة بهم في عواقب عنادهم‏.‏ والمعاني المجازيّة التي علاقتها اللّزوم يجوز تعدّدها مثل الكناية، وقرينة المجاز هي‏:‏ ظهور أنّ أصحاب الجنّة يعلمون أنّ أصحاب النّار وجدوا وعده حقاً‏.‏

والوجدان‏:‏ إلفاء الشّيء ولقيّه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فوجد فيها رجلين يقتتلان‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏ وفِعله يتعدّى إلى مفعول واحد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ووجد الله عنده‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ ويغلب أن يذكر مع المفعول حالُه، فقوله‏:‏ ‏{‏وجدنا ما وعدنا ربنا حقا‏}‏ معناه ألفيناه حالَ كونه حقاً لا تخلّف في شيء منه، فلا يدلّ قوله‏:‏ ‏{‏وجدنا‏}‏ على سبق بحث أو تطلب للمطابقة كما قد يتوهّم، وقد يستعمل الوجدان في الإدراك والظنّ مجازاً، وهو مجاز شائع‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ موصولة في قوله‏:‏ ‏{‏مَا وعدنا ربّنا‏}‏ و‏{‏مَا وعد ربّكم‏}‏ ودَلت على أنّ الصّلة معلومة عند المخاطبين، على تفاوت في الإجمال والتّفصيل، فقد كانوا يعلمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وعد المؤمنين بنعيم عظيم، وتوعّد الكافرين بعذاب أليم، سمع بعضهم تفاصيل ذلك كلَّها أو بعضها، وسمع بعضهم إجمالها‏:‏ مباشرة أو بالتّناقل عن إخوانهم، فكان للموصولية في قوله‏:‏ ‏{‏أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا‏}‏ إيجازٌ بديع، والجواب بنَعَم تحقيق للمسؤول عنه بهل‏:‏ لأنّ السؤال بهَل يتضمّن ترجيح السّائل وقوع المسؤول عنه، فهو جوابُ المقرّ المتحسّر المعترف، وقد جاء الجواب صالحاً لظاهر السّؤال وخفيِّه، فالمقصود من الجواب بها تحقيق ما أريد بالسؤال من المعاني حقيقة أو مجازاً، إذ ليست نعَم خاصة بتحقيق المعاني الحقيقيّة‏.‏

وحذف مفعول ‏(‏وعَدَ‏)‏ الثّاني في قوله‏:‏ ‏{‏ما وعد ربكم‏}‏ لمجرّد الإيجاز لدلالة مقابله عليه في قوله‏:‏ ‏{‏ما وعدنا ربنا‏}‏ لأنّ المقصود من السّؤال سؤالهم عمّا يخصّهم‏.‏ فالتّقدير‏:‏ فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم، أي من العذاب لأنّ الوعد يستعمل في الخير والشرّ‏.‏

ودلّت الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فأذّن مؤذن‏}‏ على أنّ التّأذين مسبّب على المحاورة تحقيقاً لمقصد أهل الجنّة من سؤال أهل النّار من إظهار غلطهم وفساد معتقدهم‏.‏

والتّأذينُ‏:‏ رفع الصّوت بالكلام رفعاً يُسمع البعيد بقدر الإمكان وهو مشتقّ من الأذن بضمّ الهمزة جارحةِ السمع المعروفة، وهذا التّأذين إخبار باللّعن وهو الإبعاد عن الخير، أي إعلام بأنّ أهل النّار مبعدون عن رحمة الله، زيادة في التّأييس لهم، أو دعاء عليهم بِزيادة البعد عن الرّحمة، بتضعيف العذاب أو تحقيق الخلود، ووقُوع هذا التأذين عقب المحاورة يعلَم منه أنّ المراد بالظّالمين، وما تبعه من الصّفات والأفعال، هم أصحاب النّار، والمقصود من تلك الصّفات تفظيع حالهم، والنّداء على خبْثثِ نفوسهم، وفساد معتقدهم‏.‏

وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم، وقُنبل عن ابن كثير‏:‏ ‏{‏أنْ لعنة الله‏}‏ بتخفيف نون ‏(‏أن‏)‏ على أنّها تفسيريّة لفعل ‏(‏أذّنَ‏)‏ ورفععِ ‏(‏لعنة‏)‏ على الابتداء والجملة تفسيرية، وقرأه الباقون بتشديد النّون وبنصب ‏(‏لعنة‏)‏ على ‏(‏أنّ‏)‏ الجملة مفعول ‏(‏أذّن‏)‏ لتضمنه معنى القَول، والتّقدير‏:‏ قائلاً أنّ لعنة الله على الظّالمين‏.‏

والتّعبير عنهم بالظّالمين تعريف لهم بوصف جرى مجرى اللّقب تعرف به جماعتهم، كما يقال‏:‏ المؤمنين، لأهل الإسلام، فلا ينافي أنّهم حين وُصِفوا به لم يكونوا ظالمين، لأنّهم قد علّموا بطلان الشّرك حقّ العلم وشأن اسم الفاعل أن يكون حقيقة في الحال مجازاً في الاستقبال، ولا يكون للماضي، وأمّا إجراء الصّلة عليهم بالفعلين المضارعين في قوله‏:‏ ‏{‏يَصدّون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويَبغونها‏}‏ وشأنُ المضارع الدّلالة على حدث حاصل في زمن الحال، وهم في زمن التّأذين لم يكونوا متّصفين بالصدّ عن سبيل الله، ولا ببغي عوج السّبيل، فذلك لقصد ما يفيده المضارع من تكرّر حصول الفعل تبعاً لمعنى التّجدّد، والمعنى وصفهم بتكرّر ذلك منهم في الزّمن الماضي، وهو معنى قول علماء المعاني استحضار الحالة، كقوله تعالى في الحكاية عن نوح‏:‏

‏{‏ويصنع الفلك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 38‏]‏ مع أنّ زمن صنع الفلك مضى، وإنّما قصد استحضار حالة التّجدّد، وكذلك وصفهم باسم الفاعل في قوله‏:‏ ‏{‏وهم بالآخرة كافرون‏}‏ فإن حقه الدلالة على زمن الحال، وقد استعمل هنا في الماضي‏:‏ أي كافرون بالآخرة فيما مضى من حياتهم الدّنيا، وكلّ ذلك اعتماد على قرينة حال السّامعين المانعة من إرادة المعنى الحقيقي من صيغة المضارع وصيغة اسم الفاعل، إذ قد عَلِم كلّ سامع أنّ المقصودين صاروا غير متلبّسين بتلك الأحداث في وقت التّأذين، بل تلبّسوا بنقائضها، فإنّهم حينئذ قد علموا الحقّ وشاهدوه كما دلّ عليه قولهم‏:‏ ‏{‏نَعَم‏}‏‏.‏ وإنَّما عُرّفوا بتلك الأحوال الماضية لأنّ النّفوس البشريّة تعرّف بالأحوال التي كانت متلبسة بها في مدّة الحياة الأولى‏.‏ فبالموت تنتهي أحوال الإنسان فيستقر اتّصاف نفسه بما عاشت عليه، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ يبعث كلّ عبد على ما مات عليه ‏"‏ رواه مسلم، ويجوز أن تكون هذه اللّعنة كانت الملائكة يَلعنونهم بها في الدّنيا‏.‏ فجهروا بها في الآخرة، لأنّها صارت كالشّعار للكفرة ينادَون بها، وهذا كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالمؤذّنين يوم القيامة يصرخون بالأذان ‏"‏ مع أنّ في ألفاظ الأذان ما لا يقصد معناه يومئذ وهو‏:‏ «حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح»‏.‏ وفي حكاية ذلك هنا إعلام لأصحاب هذه الصّفات في الدّنيا بأنّهم محقوقون بلعنة الله تعالى‏.‏

والمراد بالظّالمين‏:‏ المشركون، وبالصدّ عن سبيل الله‏:‏ إمّا تعرّض المشركين للراغبين في الإسلام بالأذى والصّرف عن الدّخول في الدّين بوجوه مختلفة، وسبيل الله ما به الوصول إلى مرضاته وهو الإسلام، فيكون الصدّ مراداً به المتعدي إلى المفعول‏.‏ وإما إعراضهم عن سماع دعوة الإسلام وسماع القرآن، فيكون الصدّ مراداً به القاصر، الذي قيل‏:‏ إنّ مضارعه بكسر الصّاد، أو إن حق مضارعه كسر الصّاد، إذ قيل لم يسمع مكسور الصّاد، وإن كان القياس كَسْر الصّاد في اللاّزم وضمَها في المتعدي‏.‏

والضّمير المؤنّث في قوله‏:‏ ‏{‏ويبغونها‏}‏ عائد إلى ‏{‏سبيل الله‏}‏‏.‏ لأنّ السّبيل يذكّر ويؤنّث قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏‏.‏

والعِوَج‏:‏ ضدّ الاستقامة، وهو بفتح العين في الأجسام‏:‏ وبكسر العين في المعاني‏.‏ وأصله أن يجوز فيه الفتح والكسر‏.‏ ولكن الاستعمال خصّص الحقيقة بأحد الوجهين والمجازَ بالوجه الآخر، وذلك من محاسن الاستعمال، فالإخبار عن السبيل ‏(‏عِوج‏)‏ إخبار بالمصدر للمبالغة، أي ويرومون ويحاولون إظهار هذه السّبيل عوجاء، أي يختلقون لها نقائص يموّهونها على النّاس تنفيراً عن الإسلام كقولهم‏:‏ ‏{‏هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل مُمَزّق إنّكم لفي خَلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7، 8‏]‏، وتقدّم تفسيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏99‏)‏‏.‏

وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسميّة في قوله‏:‏ وهم بالآخرة كافرون‏}‏ للدّلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكّنه منهم، لأنّ الكفر من الاعتقادات العقليّة التي لا يناسبها التّكرّر، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصدّ عن سبيل الله وبغي إظهار العِوَج فيها، لأنّ ذَيْنك من الأفعال القابلة للتّكرير، بخلاف الكفر فإنّه ليس من الأفعال، ولكنّه من الانفعالات، ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يرزق من يشاء وهو القوي العزيز‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 19‏]‏‏.‏